حسناً. لقد عرفنا فى الحلقات السابقة قصة بدايتى مع السكوتر، ولكن ما هى قصة بداية هذه الآلة نفسها المسماة “سكوتر”؟ وما علاقة “عم بطوط”، تلك الشخصية الكارتونية المحببة إلينا، بها؟ دعونا نتفق أولاً ان كلمة “فسبا” التى يطلقها العامة فى مصر على هذا الشكل من الدراجات النارية هى ليست تصنيفاً لغوياً صحيحاً. فالاسم الصحيح المترجم من الانجليزية هو “سكوتر”، ويطلق على أى دراجة نارية تتميز بتصميم يسمح بوضع قدميك بشكل متوازى أمامك بدلاً من ضمهما إلى جانبىالدراجة كما هو معتاد. يسمون هذا الشكل “ستيب-ثرو فريم” وتعنى حرفياً: “إطار يسمح بالمرور من خلاله”! وهو نوع من الدراجات معروف منذ أواخر القرن التاسع عشر وأول من اخترعها كان الألمان.
أما كلمة “فيسبا”، فهى كلمة إيطالية تعنى “دبور”، وقد اختارتها شركة إيطالية تدعى “بياجيو” لتكون العلامة التجارية الخاصة بخط إنتاجها من الدراجات النارية المصممة بشكل السكوتر المميز. وكعادة كل المنتجات الرائدة فى أى صناعة، صارت كلمة “فيسبا” تستخدم كبديل عملى عن كلمة “سكوتر” الأشمل والأعم، تماماً كما نقول “كلينكس” على المناديل الورقية، رغم أنها ماركة تجارية أمريكية لا أكثر، وكما نقول “أسبرين” على كافة الأدوية المسكنة للألم، إلخ. وفى مصر المحروسة، ولأننا نختلف دائماً عن الآخرين، فلقد طعم المصريين العظماء كلمة “فيسبا” ذاتها بالنكهة المحلية التى تحول كل “سين” أو “ذال” إلى “زاى”، فصار المتعارف عليه ان ذلك الشكل من الموتوسيكلات يعرف باسم “فزبا”.
لن أنسى يوم ذهبت لترخيص السكوتر الخاص بى فى وحدة المرور المختصة بمنطقة سكنى فى شبرا، وتوجهت بعد أداء الفحص الفنى المعتاد إلى المهندس المسؤول ليقوم بالتصديق على أوراق الفحص. لقد سألنى وهو منهمك فى تفنيد عدد كبير من الأوراق يحملها فى يده بلا اكتراث مثلما تحمل ساندوتشات الفول الملفوفة بأقصى عشوائية ممكنة:
- العربية نوعها ايه؟
- مش عربية يا فندم
- أومال ايه؟
- فسبا ان شاء الله
هنا حصلت على قدر من الإهتمام يفوق سندوتشات الفول بقليل، فقد رفع عينيه إلى من فوق النظارة يتفحصنى بإمعان كما لو كنت موتور سيارة لامبورجينى لم يسبق لمثله ان رأها رأى العين قطعاً، ثم قال بلهجة ناظر مدرسة “قفش” أحد الطلاب متهرباً من درس النحو:
- ايه؟ اسمها ايه؟
- فسبا حضرتك … مكنة
- اسمها ايه تانى كده؟
- (بدأت اتلعثم مع جهلى التام بموقع الخطأ فى كلامى) فسبا؟
- قصدك “فزبا”؟ صح؟
- اييييييوة. فزبا! أنا آسفة والله … أنا شخصياً بقول “مكنة” عادى!
فضحك ضحكة صفراء (وهذه هى مستوى على درجة عالية من التطور من الابتسامة الصفراء) وختم على أوراق الفحص وزيلها بتوقيعه الشريف، فخطفتها من بين يديه ولذت بالفرار وأنا أقسم ألا استخدم أى لفظ آخر يعبر عن هذا الشىء الذى أركبه سوى كلمة “مكنة”.
حسناً، نعود إلى قصة “الفسبا” نفسها. شركة “بياجيو” المنتجة لها قد انشأت فى أواخر القرن التاسع عشر، تحديداً فى عام 1884، وكان منتجها الرئيسى هو محركات القطارات وعربات السكك الحديدية، ثم اتجهت خلال الحرب العالمية الأولى إلى تصنيع الطائرات. ومع إندلاع الحرب العالمية الثانية، تخصصت “بياجيو” فى صناعة الطائرات القاذفة للقنابل، تلك المدعوة “بومبر ايركرافت”، لذلك، كان مصنعها الكبير فى مدينة “بونتديرا” الهدف الرئيسى لقذائف قوات الحلفاء حين دخلوا إلى إيطاليا، فتم تدميره بالكامل.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت خسائر “بياجيو” فادحة بحق. فمن ناحية، مصنعها الرئيسى قد تساوى بالأرض، ومن ناحية أخرى، بإنقشاع غبار الحرب عن المنطقة واتجاه الدول المتأثرة بها إلى حركة إعادة البناء والتعمير، انحسرت الحاجة إلى لمنتج الشركة الأساسى من الطائرات المقاتلة. هكذا انصرف نظر “انريكو بياجيو”، مالك الشركة، إلى تلبية إحتياجات السوق المحلى فى ايطاليا. فالطرق الرئيسية والشوارع قد تدمرت إثر الحرب، مما يعنى صعوبة استخدام السيارات العادية. من ناحية أخرى لم يكن إقتصاد إيطاليا فى تلك الفترة بأحسن حالاً من شوارعها؛ كانت الأسر الإيطالية بالكاد تجد قوت يومها، وبالتالى كانت فى أمس الحاجة لوسيلة انتقال رخيصة وإقتصادية.
هكذا عكف مهندسى “بياجيو” عام 1944 على تصميم مركبة تشبه إلى حد ما الموتوسيكل وإن كان هيكلها الخارجى يحتوى كل التفاصيل الميكانيكية من موتور وأسلاك وخلافه. وكان هذا التصميم يتخذ كنواة له تلك الموتوسيكلات الزيتونية اللون التى كانت القوات الأمريكية تستخدمها كوسيلة لنقل قوات المشاة وقوات البحرية عبر الخطوط الدفاعية للنازية والمناطق المدمرة بين الطرفين المتنازعين.
فى النهاية تم تصنيع النموذج التجريبى الأول لهذا التصميم وأعطوه اسم “بابيرينو”، وهو اسم “عم بطوط” فى إيطاليا، على غرار السيارة ماركة “فيات” موديل 500 التى أطلق عليه اسم “توبولينو”، أى “ميكى ماوس” بسبب تصميمها الذى يشبه إلى حد كبير تلك الشخصية الكارتونية. وهذه المعلومة الطريفة إن دلت فإنما تدل على ان الإيطاليين يسبقوننا معشر المصريين فى القدرة على “الألش” بسبعين سنة على الأقل!
جدير بالذكر ان هذا النموذج التجريبى، الذى يعرف كذلك باسم “إم بى 5” إختصارا ل “موتو بياجيو 5” مازال معروضاّ حتى الساعة فى متحف شركة “بياجيو” فى مدينة “بونتيديرا” الإيطالية، مسقط رأس” الشركة وأصحابها. بيد ان هذا التصميم لم ينل إعجاب “انريكو بياجيو”، فقد رأي فيه تكلّف من حيث الحجم والطول، لذلك لجأ إلى أحد مهندسى شركته القدامى، ويدعى “كورادينو داسكانيو”، الرجل الذى يعتبر الأب الروحى لما نعرفه اليوم باسم “الفيسبا”.
كان هذا ال “كورادينو” فتى نابغة منذ صغره، شغوفاً بالطيران منذ صغره، حتى انه فى عمر الخامسة عشر تمكن من تصميم طائرة شراعية كاملة، كان يطلقها من فوق التلال المتاخمة لمسقط رأسه فى مدينة “بيزا” الإيطالية. لذلك كان منطقياً ان يتطلع إلى دراسة الهندسة الميكانيكية، ثم يتطوع للانضمام إلى الجيش الإيطالى، وتحديداً فى سلاح المهندسين، كتيبة الطيارين. برع “كوردينو داسكانيو” فى مجال ميكانيكا الطيران، وله العديد من براءات الاختراع المسجلة فى تطوير أنظمة الطيارات المختلفة. هكذا أخذ ينتقل من مشروع إلى الآخر، وما بين الجيش والشركات الخاصة، ومنها شركة “بياجيو” حتى انتهت الحرب العالمية الثانية، ووجد نفسه مثل العديد من الايطاليين فى تلك الفترة بلا عمل ولا مورد دخل. والأسوأ من ذلك ان إيطاليا وضعت فى تلك الفترة تحت حظر تصنيع أو تطوير أى معدات عسكرية أو تقديم أى أبحاث فى مجال تكنولوجيا الفضاء لمدة عشرة أعمال كاملة. هذا يعنى ان مجال عمل “كوردينو” الأساسى قد أغلق فى وجهه تماماً داخل إيطاليا. ولكن لحسن حظه ان هذا الوضع لم يستمر طويلاً، حيث فاجأه “انريكو بياجيو” بطلب تطوير نموذجه الأول “البابرينو” بنموذج أكثر انسيابية وعملية فى نفس الوقت.
عكف “كوردينو” الذى كان يكره الشكل التقليدى للموتوسيكلات على تصميم عصرى غير مألوف. كان هناك عدد من المواصفات المحددة التى أراد ان يوفرها لسائق هذه المركبة الجديدة. أولها ان تكون مناسبة لقيادة الرجال والنساء على حد سواء، لذلك التجويف الأمامى لهيكل السيارة الذى يسمح للمرأة بتنورتها الطويلة فى ذلك الوقت بالجلوس على المقعد فى أناقة وراحة. وثانيها كان حماية أقدام السائق من أوساخ الطريق، لذلك جاءت مقدمة السكوتر فى شكل درع حديدى تختفى القدمين وراءه تماماً. وأخيراً، جاءت الحاجة إلى قدرة السكوتر على استيعاب راكب مرافق، فكان الكرسى الطويل الذى يغطى الموتور ويسمح بركوب مرافق أو اثنان خلف السائق، مما سمح بدوره للترويج لهذه المركبة كوسيلةمواصلات عملية جداً للأزواج بل للعائلة بأكملها.
هكذا ولدت “الفيسبا” الأولى فى شكلها الكلاسيكى عام 1946م، حيث تم عرض النسخ الأولى منها فى معرض بمدينة ميلانو، وتم بيع 50 مركبة فى العام الأول، ثم ما لبثت مبيعاتها ان زادت اضطرادياً حتى وصلت إلى أكثر من 60,000 “فيسبا” بيعت فى عام 1950 وحده. هكذا تربعت شركة “بياجيو” على عرش السكوتر فى العالم بمبيعات خيالية، حتى ان ال”فيسبا” صارت من الايقونات الوطنية الإيطالية. وحين اصطحب الممثل الأمريكى الوسيم “جريجورى بيك” حبيبته الرقيقة “أودرى هيبورن” وراءه على الفيسبا الايطالية ليتجول بها فى شوارع روما فى فيلم “إجازة فى روما”، ألهب حواس الجماهير وصار حلم كل فتاة فى هذا الجيل – جيل الخمسينات – هو ان تركب الفيسبا وتدور بها فى شوارع “روما” وهى تتعلق بظهر حبيبها. استمر هذا المشهد حاضراً فى الأذهان حتى يومنا هذا، فحين ذهبت إلى “روما” منذ بضعة سنوات، كانت محال التذكارات السياحية كلها تعرض علامة “الفيسبا” المميزة، وصور من الفيلم الشهير، وكذلك نماذج مصغرة من “الفيسبا” فى موديلات متعددة. وقد اوستغل الإيطاليون هذه الشهرة إلى أبعد من ذلك، ففتحوا محلات لتأجير السكوتر باليوم، ويضعون تسعيرة مبالغ فيها للإيجار، كما تقوم شركات السياحية بتنظيم جولات لمشاهدة معالم “روما” يقوم فيها كل سائح بقيادة سكوتر خاص به.
شيرين عادل
15 November 2014